مسائل القدر من المسائل العظام التي اختلفت فيها الآراء وافترقت فيها الفرق .
والقدرية اسم يطلق على كل من خالف عقيدة السلف في باب القدر والمشهور منهم طائفتان طائفة نفوا القدر وأثبتوا للعبد إرادة كاملة خارجة عن إرادة الله ومشيئته فقالوا “إن الأمر أُنُف” ، وإن العبد يخلق فعله واستدلوا بمثل قوله تعالى {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [ الْمُؤْمِنُونَ14 ] فأثبتوا خالقاً مستقلاً مع الله ولذلك قال العلماء ، إن هذه الطائفة من أشر الطوائف لأن فيهم شرك .
وأما الطائفة الثانية فقد غلوا في القدر حتى سلبوا العبد القدرة والإرادة ، التي خلقها الله فيه كما في قوله تعالى (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) [الكهف29]
ومثل قوله تعالى (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت 69 ]، وقوله (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [القصص 56]
وهؤلاء لم يفقهوا هذه الآيات فجعلوا العبد مجبوراً كالريشة في مهب الريح ولذلك سُموا بالجبرية حتى يُميَزوا عن الطائفة السابقة .
والقول بالجبر المحض والتزام لوازمه مثل ارتفاع مسؤلية العبد يؤدي إلى الكفر .
والأشاعرة أرادوا أن يهربوا من مذهب القدرية أن العبد يخلق فعله فقالوا إن الله يخلق أفعال العباد كما قال صاحب الجوهرة :
فخالق لعبده وما عمل . وهم في هذه الجزئية قد أصابوا ووافقوا مذهب السلف .
لكنهم جعلوا قدرة العبد غير مؤثرة في الحقيقة كما سيأتي ، وفي المقابل أرادوا أن يهربوا من مذهب الجبرية أن العبد لاقدرة له وأنه كالريشة في مهب الريح فاخترعوا ما يسمى بعقيدة ” الكَسْب ” . فقالوا : إن الإنسان مجبور في صورة مختار .
فخالفوا اللغة والعقل والنقل …
حتى عُد قولهم هذا من المحالات كما قال صاحب المنظومة :
مِمَّا يُقَالُ ولا حقيقةَ تَحتَهُ معقولة تَدْنُو إلى الأفْهامِ
الكَسْبُ عندَ الأشعريِّ والحالُ عندَ البَهْشَمِي وطفرةُ النَظَّامِ.
وملخص الكسب هو التفريق بين القدرة – أي قدرة العبد – والتأثير .
أي أن المخلوق له قدرة لا يقدر بها، وأن الأشياء تحصل عند فعله لا به، فالمخلوق يتسبب في الفعل، فيحصل الفعل عند السبب لا به .
قال صاحب جوهرة التوحيد (أشعري) :
وَعِنْدَنَا لِلْعَبْدِ كَسْبٌ كُلِّفَـا
بِهِ وَلكِـنْ لَـمْ يُؤَثِّـرْ فَاعْرِفَـا
فَلَيْسَ مَجْبُورًا وَلاَ اخْتِيَارَا
وَلَيْـسَ كَـلاًّ يَفْعَـلُ اخْتِيَـارَا
فَإِنْ يُثِبْنَا فَبِمَحْضِ الْفَضْلِ
وَإِن يُعَـذِّبْ فَبِمَحْـض الْعَـدْلِ
قال شارح أم البراهين (أشعري) : ” أجرى الله تعالى العادة أن يخلق عند تلك القدرة ، لا بها، ماشاء من الأفعال وجعل الله سبحانه وجود تلك القدرة مقارنة للفعل شرطاً في وجوب التكليف ، وهذا الاقتران والتعلق لهذه القدرة الحادثة بتلك الأفعال من غير تأثير لها أصلاً هو المسمى في الاصطلاح ، وفي الشرع بالكسب والاكتساب وبحسبه تضاف الأفعال إلى العباد ”
وفي الحاشية قال الدسوقي ” والحاصل أن الكسب يطلق على كل من المقدور وعلى اقتران القدرة بالمقدور ” ص216
قلت : وكون قدرة العبد غير مؤثرة عند الأشاعرة مبني على عدم التلازم المؤثر بين السبب والمسبَب عندهم أو بعبارة أخرى يجعلون التلازم عادياً – كما نصوا على ذلك في بعض المواضع – قالوا الفعل يحدث عند السبب وليس بالسبب أي يحدثه الله هكذا .
قال الباقلاني – وهو أئمة الأشاعرة – ” نحن ننكر فعل النار للتسخين والاحتراق وننكر فعل الثلج للتبريد وفعل الطعام والشراب للشبع والري والخمر للإسكار كل هذا عندنا باطل محال ننكره أشد الإنكار ” ( انظر الفصل لابن حزم )
وهذا هو اعتقاد جمهور الأشاعرة لكن قد خالف هذا القول بعضهم مثل أبي إسحق الإسفرائيني والجويني كما نص على ذلك شيخ الإسلام .
والذي ألجأ الأشاعرة إلى هذا ، أمران .
الأول : زعموا أنهم بهذا ينصرون التوحيد – التوحيد عندهم محصور في الربوبية ! كما سيأتي في حلقة مستقلة –
فظنوا أن القول بالتأثير يفضي إلى إثبات شريك مع الله حتى قال بعض المعاصرين إن هذا القول يفضي إلى تعدد الآلهة ، وهذه الشبهة عبر عنها أحمد الدردير في “الخريدة البهية” بقوله :
والفِعلِ فالتأثيرُ ليسَ إلا ** للواحِدِ القَهَّار جلَّ وعَلا
ومن يَّقُل بالطَّبعِ أو بالعلَّةْ *** فذاكَ كُفرٌ عند أهلِ المِلَّةْ
ومَن يَقُل بِالقُوَّةِ المُودَعَةِ *** فَذَاكَ بِدْعِيٌّ فلا تَلتَفِتِ
فعندهم أن من يقول “إن العبد فاعل لفعله حقيقة وإن له قدرة واستطاعة حقيقية ولا ينكر تأثير الأسباب الطبيعية ” واقع بين الكفر والبدعة !
ونحن هنا لسنا بحاجة إلى الرد المفصل على هذه الفرية لأن الاعتقاد الموافق لقواعد التوحيد والذي عليه أصحاب الفطرة السليمة هو ما عبر عنه شيخ الإسلام بقوله ” ومعلوم أنه ليس في المخلوقات شيء هو وحدَه علَّة تامَّة وسبب تامّ للحوادث، بمعنى أن وجودَه مستلزم لوجود الحوادث، بل ليس هذا إلا مشيئة الله تعالى خاصَّة، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ” مجموع الفتاوى (8/ 133).
ولهذا فاق الغزالي في رده على الفلاسفة في هذه المسألة .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله :
“ولو تتبعنا ما يفيد إثبات الأسباب من القرآن والسنَّة لزاد على عشرة آلاف موضع ، ولم نقل ذلك مبالغة بل حقيقة ، ويكفي شهادة الحس والعقل والفِطَر ، ولهذا قال مَن قال مِن أهل العلم : تكلم قوم في إنكار الأسباب فأضحكوا ذوي العقول على عقولهم ، وظنوا أنهم بذلك ينصرون التوحيد “
يقول السفاريني ” وأما مذهب السلف الصالح المثبتون للقدر من جميع الطوائف فإنهم يقولون إن العبد فاعل لفعله حقيقة وإن له قدرة واستطاعة حقيقية ولا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرون بما دل عليه الشرع والعقل من أن الله تعالى ينبت النبات بالماء، وأن الله يخلق السحاب بالرياح وينزل الماء بالسحاب، ولا يقولون القوى والطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها بل يقرون بأن لها تأثيرًا لفظًا ومعنى، ولكن يقولون هذا التأثير هو تأثير الأسباب في مسبباتها والله تعالى خالق السبب والمسبب ” (لوائح الأنوار السنية (2/ 142))
ومما يدل على إن الأشاعرة واهمون في منافحتهم عن التوحيد بهذا الاعتقاد الذي يؤدي بهم إلى ما يناقض التوحيد أن الكوثري الماتريدي المعاصر ألزمهم بالقول بوحدة الوجود لأن قولهم ” لافاعل إلا الله ” يستلزم أنه ” لاموجود إلا الله ” .
الثاني : قالوا إنه يفضي إلى إنكار النبوات .
قلت : وفي هذا مبحث سيأتي في حلقة خاصة . وعكْسه عليهم أولى ، لأن جعل التلازم عادياً كما يقولون يجعل المعجزة بلا معنى لأنها حينئذ لا تكون من فعل النبي أو الرسول .
وخلاصة القول :
أن المخالفين لأهل السنة في هذا الباب وهم القدرية والجبرية ومثلهم الكسْبيّة ، حقيقة الخلاف بينهم وبين أهل السّنة في الإرادتين ، إرادة المخلوق وإرادة الخالق ، فالقدرية يعظمون إرادة المخلوق وينفون إرادة الخالق عند وقوع الفعل من العبد والجبرية على العكس من ذلك يعظمون إرادة الخالق وينفون إرادة المخلوق .
والسر وراء ذلك الخلط هو شبهة التشبيه التي تطارد المعطلة لكنهم هنا شبهوا إرادة المخلوق بإرادة الخالق دون أن يشعروا ..
وبيان ذلك أن المخلوق إذا أراد شيئاً ، وإراد مخلوق آخر معارضته ، فلا بد من نفوذ إحدى الإرادتين وتخلف الأخرى لوجود تعارض بين الإرادتين فلا بد من نفوذ إحداهما فظنوا إن إرادة الله مع إرادة المخلوق كإرادة المخلوق مع المخلوق – هذا خلاف مذهبهم في الصفات – فسلبوا إرادة المخلوق .
والحق الذي يزول به الإشكال أن إرادة الله ليست مثل إرادة المخلوق وحينئذ لايقال بالتعارض بين إرادة الله أن يقع العبد في المعصية وإرادة العبد أن لا يفعلها – لو أراد ذلك – فلو أراد العبد عدم الفعل لم تقع منه المعصية بينما لو كانت مثل إرادة المخلوق لنفذت إرادة الأقوى وهذا سر القدر !
وبهذا تعرف الجواب على الإشكال الذي يورده بعضهم حين يقع في المعصية فيعتذر بأن الله أراد له ذلك فإذا قلت له ولكن الله جعل لك إرادة قال إرادة الله غالبة !
لأننا نقول حينئذ ، قد وقعْت في المعصية بإرادة الله وإرادتك . ولا تعارض لو أنك لم ترد الوقوع في المعصية وبين أن كل شيء يقع بإرادة الله فلا يقال إرادة المخلوق لا أثر لها لأن إرادة الله هي الأقوى كما تقول الأشاعرة بل يقال إرادة الله صفة له ليست كإرادة المخلوق فلا تعارض !!