● الخوارج ليس كما هو شائع أنهم فقط الذين يكفرون بالمعاصي كما يحاول بعضهم أن يؤصل هذه الفكرة في نفوس الناس إما مكراً منه أو جهلاً ، بل الذي عليه أهل العلم أن هذا الوصف يلحق بأقوام دون ذلك ، وقد كنا بالأمس نرى بعض من أنكر على من وقع في الإرجاء يقول هم مرجئة ولو قالوا : الإيمان قول وعمل ، بل تجرأ بعضهم ، ولا أدري هل هذا جهل منه أم اتباع للهوى فقال : هم مرجئة ولو قالوا الإيمان قول وعمل يزيد وينقص حتى لا يبقى منه شيء .
قال الإمام أحمد “وَأما الْخَوَارِج فَإِنَّهُم يسمون أهل السّنة وَالْجَمَاعَة مرجئة وكذبت الْخَوَارِج فِي قَوْلهم بل هم المرجئة يَزْعمُونَ أَنهم على إِيمَان وَحقّ دون النَّاس وَمن خالفهم كَافِر” انظر المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران (1/100)
لكن رأينا أهل العلم قالوا كلمتهم فيمن خالف عقيدة أهل السنة والجماعة .. وقال أن الإيمان ينقص حتى يبقى منه ذرة .
وقد جاء في شرح السنَّة للبربهاري ” من قال الإيمان قول وعمل يزيد وينقص فقد خرج من الإرجاء أوله وآخره ” ومثله جاء عن الإمام أحمد ، وفيه أيضاً ” الإيمان قول وعمل ، وعمل وقول ، ونية وإصابة يزيد وينقص يزيد ما شاء الله وينقص حتى لا يبقى منه شيء ” ، وجاء مثل ذلك عن الأوزاعي وإسحاق بن راهويه ( انظر اجتماع الأئمة على نصرة مذهب أهل السنَّة )
.● واليوم رغم ظهور علامات الخوارج في بعض الرموز إلا أنهم لا يقرون بذلك بل وضع بعضهم شروطاً وأوصافاً للخوارج لا تجدها حتى في الخوارج الأولين ، فالتكفير بكل كبيرة و الحكم على صاحبها بالخلود في النار ، لا يوجد في بعض فرق الخوارج المشهورة والمتفق على أنها من أكبر فرق الخوارج كالنجدية .
ففي مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري ( 1/183) قال ” وأصل قول الخوارج إنما هو قول الأزارقة والأباضية والصفرية والنجدية وكل الأصناف سوى الأزارقة والأباضية والنجدية فإنما تفرعوا من الصفرية ” . فالنجدية من رؤوس الخوارج كما ترى ، ومع ذلك فقد وصفهم بأنهم لا يكفرون بكل كبيرة كما سيأتي .
قال أبو الحسن الأشعري و هو يتكلم عن صفات الخوارج: ” وأجمعوا على أن كل كبيرة كفر إلا النجدات فإنها لا تقول بذلك ، وأجمعوا على أن الله يعذب أصحاب الكبائر عذاباً دائماً إلا النجدات أصحاب نجدة ” ،
وقد نقل هذا القول عن الأشعري شيخ الإسلام في منهاج السنة (3/461) دون أن يتعقبه .
والذي يعنينا هنا أن من أثبت لهم هذه الصفة كالأشعري وشيخ الإسلام عدوهم من الخوارج .فسبحان الله كيف يعمل الهوى في أهله ، ما كانوا يقررونه بالأمس ، أصبحوا اليوم ينقضونه ،
قال الإمام أحمد : ” لعن الله أهل البدع ، يقولون ما لهم ويتركون ما عليهم ”
.● وقد كان شيخ الإسلام رحمه الله من أعرف الناس بأهل البدع وحكمِهم في الشرع وها هو في هذا النقل النادر ، الذي يذكره عنه تلميذه ابن كثير وفيه يحكم على طائفة من المسلمين ظهرت في عصره ، أنهم يقاتَلون قتال الخوارج رغم اختلافهم عن فرق الخوارج المشهورة في خصال كثيرة .
قال ابن كثير في البداية والنهاية (14/23) :” وقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتر من أي قبيل هو , فإنهم يظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الإمام فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه , فقال الشيخ تقي الدين هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية ورأوا أنهم أحقُ بالأمر منهما وهؤلاء يزعمون أنهم أحقُ بإقامة الحق من المسلمين ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصي والظلم وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة , فتفطن العلماء والناس لذلك وكان يقول للناس إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم ونياتهم ولله الحمد ” .فتأمل قوله في وصفهم , وهؤلاء يزعمون أنهم أحقُ بإقامة الحق ، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصي والظلم .
وفي الاقتضاء (1/75) قال شيخ الإسلام:” روى مسلم في صحيحه عن أبي قيس زياد بن رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ )، ذكر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الأقسام الثلاثة التي يعقد لها الفقهاء باب قتال أهل القبلة من البغاة والعداة وأهل العصبية”
ثم قال ” والقسم الثالث ، الخوارج على الأمة إما من العُداة الذين غرضهم الأموال كقطاع الطريق ونحوهم ، أو غرضهم الرياسة كمن يقتل أهل مصر ، الذين هم تحت حكم غيره مطلقاً وإن لم يكونوا مقاتلة أو من الخارجين عن السنَّة الذين يستحلون دماء أهل القبلة مطلقاً كالحرورية الذين قتلهم علي رضي الله عنه ” .
فتأمل كيف جعل العداة الذين غرضهم الأموال كقطاع الطريق ونحوهم ، أو غرضهم الرياسة من الخوارج .
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة الحسن بن صالح ( 7/363) :” دخل سفيان الثوري يوم الجمعة من الباب القبلي فإذا الحسن بن صالح يصلي فقال نعوذ بالله من خشوع النفاق وأخذ نعليه فتحول إلى سارية أخرى ” .
والحسن بن صالح قال فيه الإمام الذهبي ، هو من أئمة الإسلام لولا تلبسه ببدعة.
قلت : وبدعته أنه كان يرى جواز الخروج على أئمة الجور . ولم يعرف عنه الخروج أو تزيينه للناس .
قال أبو سليمان الداراني ” ما رأيت أحداً الخوف أظهر على وجهه والخشوع من الحسن بن صالح قام ليلة بـ عم يتساءلون – النبأ – فغشي عليه فلم يختمها إلى الفجر ” ، وروى عن الحسن بن صالح أنه كان إذا نظر إلى المقبرة يصرخ ويغشى عليه ، قال أبو سعيد ، سمعت ابن إدريس وذُكر له صعق الحسن بن صالح فقال: تبسم سفيان أحب إلينا من صعق الحسن .فهذا من أئمة الإسلام كما نعته بذلك الذهبي لكن عُد من الخوارج لموافقته إياهم في مسألة واحدة ، مع أنه لم يباشر الخروج بل ولم يزيّنه للناس .ونحن نريد تبيين مسألة مهمة غفل عنها كثير من طلبة العلم ولا نريد بهذا الكلام أن يتجرأ من لا علم عنده فيبدأ بتصنف الناس وإنما نؤكد هنا أن هذا للعلماء
قال الإمام الذهبي في السير (11/82) ” فوالله لولا الحفاظ الأكابر لخطبت الزنادقة على المنابر، ولئن خطب خاطبٌ من أهل البدع، فإنما هو بسيف الإسلام وبلسان الشريعة وبجاه السنَّة وبإظهار متابعة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فنعوذ بالله من الخذلان” .
● فالمقصود ، أنه لا بد أن يتنبه طالب العلم ، أن من عادة أهل البدع أنهم يُظهرون السنَّة ثم يدخلون على الناس بدعهم كما قال بعض السلف ” لو أن كل صاحب بدعة حدثك ببدعته من حين جلوسك إليه لنفرت منه ولكن يحدثك بالسنَّة ثم يدخل عليك البدعة ” .
فلا يستطيع أن يكشف حِيلهم ويرصد بدعهم ومخالفاتهم لطريقة السلف إلا العلماء .وإن كنّا لا ندعي العصمة للعلماء إلا إنهم أكثر الناس صوابا ً، قال الذهبي ” ونحن لا ندعي العصمة في أئمة الجرح والتعديل ، لكنهم أكثر الناس صواباً وأندرهم خطأً وأشدهم إنصافاً وأبعدهم عن التحامل. وإذا اتفقوا على تعديلٍ أو جرحٍ ، فتمسك به واعضض عليه بناجذيك، ولا تتجاوزه فتندم ، ومن شذ منهم فلا عِبْرة به. فخَلِّ عنك العَناء، وأعط القوس باريها”.
● وفي هذا رد على كل من يرد كلام العلماء الأثبات في أهل البدع بحجة عدم التقليد ، وهؤلاء الرادون لكلام العلماء جمعوا مع جهلهم لهذا العلم – علم الجرح والتعديل – جهلهم لمسألة التقليد والاتباع فإن أخذ كلام العالم في العقائد والأحكام بدون دليل هو من باب التقليد في الرأي وهذا مذموم وأما في باب الجرح والتعديل فهو من باب قبول خبر الثقة وهذا جائز بالاتفاق ، فتنبه .وعلى هذا سار السلف ، فقد كانوا يقدمون كلام أهل العلم فيمن لا يُعرف حاله فضلاً عن تقديمه في أهل البدع .
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم في الجرح والتعديل قدم محمد بن إسماعيل – أي الإمام البخاري صاحب الصحيح – الري سنة خمسين ومئتين وسمع منه أبي وأبو زرعة وتركا حديثه عندما كتب إليهما محمد بن يحيى أنه أظهر عندهم بنيسابور أن لفظه بالقرآن مخلوق .فهذا أبو زرعة وأبو حاتم على جلالة قدرهما تركا حديث أمير المؤمنين في الحديث الإمام البخاري ولم يقولا كما يقول جهلة العصر ما ظهر لنا ما قيل فيه . فإذا أوكلنا الكلام في أهل البدع للعلماء فلابد أن نأخذ بكلامهم وهذا ليس من باب التقليد وإنما من باب قبول خبر الثقة .ولا شك أن الإمام البخاري قد ظُلم في تلك الفتنة التي وقعت له مع الإمام الذهلي لكن عذر الإمامين أبي زرعة وأبي حاتم أن الأمر دين فلم يكونا ليخاطرا بدينهما مع من لم يشتهر أمره وقد حذر منه إمام من أئمة العلم .
وهاك مثالاً آخر يبين فساد قواعد الجرح والتعديل عند أهل الأهواء من المتأخرين .
قال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى (6/393)” قال الخلال سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يحكي عن أبيه كلامه في داود الأصبهاني – وهو الظاهري – وكتاب محمد بن يحيى النيسابوري فقال جاءني داود فقال تدخل على أبي عبد الله وتعلمه قصتي وأنه لم يكن مني يعني ما حكوا عنه ، قال فدخلت على أبي فذكرت له ذلك قال ، ولم أعلم أنه على الباب فقال لي كذب قد جاءني كتاب محمد بن يحيى هات تلك الإضبارة .. فأخرج منها كتاباً فقال هذا كتاب محمد بن يحيى النيسابوري وفيه أنه يعني داود الأصبهاني أحل في بلدنا الحال والمحل وذكر في كتابه أنه قال القرآن محدث فقلت له إنه ينكر ذلك فقال محمد بن يحيى أصدق منه لا نقبل قول عدو الله ” .فالمقرر أنه يؤخذ بكلام الأئمة الكبار في الجرح إذا لم يكن له معارض أقوى منه وهذا لا يعارض قولهم إن الجرح لا يقبل إلا مفسراً .
للاستزادة : انظر كتابي ألوية النصر