تسلسل الحوادث … وابن تيمية

تسلسل الحوادث … وابن تيمية

هذه المسألة مسألة طويلة وعظيمة وهي من محارات العقول وإن كانت ليست من محالاتها وقد لخص الإمام ابن أبي العز شارح الطحاوية كلام شيخ الإسلام رحمهما الله تلخيصا جيدا ..
وشيخ الإسلام قد تعرض لهذه المسألة عند رده على ابن المطهر الرافضي وناسب ذلك ذكر كلام الرازي وبراهينه العشرة في إثبات أن الحوادث لها أول فرد عليه شيخ الإسلام بكلام يدل على تقدمه وحدة ذكائه رحمه الله .
والقول بحوادث لها أول يلزم منه تعطيل الله عن صفة الفعل فترة من الزمن وهذا يعارض قوله تعالى ( فعال لما يريد ) وقوله ( ولكن الله بفعل مايريد )
والقول بحوادث لا أول لها لا يلزم منه قدم العالم كما تقول الفلاسفة لأن ماعدا الله حادث والله هو الذي خلق الخلق فكيف يقال أن هنالك مخلوقاً معيناً أزلياً مع الله .
وبهذا تعرف أهمية هذه المسألة في الرد على المعطلة الذين ينفون صفات الأفعال لله بحجة أنها حادثة وأنه يلزم من ذلك أن يكون الله معطلا عن الصفات قبل حدوثها كما يقولون .
يقول الإمام ابن أبي العز رحمه الله :
“والقول بأن الحوادث لها أول، يلزم منه التعطيل قبل ذلك، وأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لم يزل غير فاعل، ثُمَّ صار فاعلاً. ولا يلزم من ذلك قدم العالم، لأن كل ما سوى الله تَعَالَى محدث ممكن الوجود، موجود بإيجاد الله تَعَالَى له، ليس له من نفسه إلا العدم، والفقر، والاحتياج وصف ذاتي لازم لكل ما سوى الله تعالى، والله تَعَالَى واجب الوجود لذاته، غني لذاته، والغنى وصف ذاتي لازم له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”
وفي موضع آخر قال :
“ومن المعلوم بالفطرة أن كون المفعول مقارناً -لفاعله لم يزل ولا يزال معه- ممتنع محال ولما كَانَ تسلسل الحوادث في المستقبل. لا يمنع أن يكون الرب سبحانه هو الآخر الذي ليس بعده شيء، فكذا تسلسل الحوادث في الماضي لا يمنع أن يكون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الأول الذي ليس قبله شيء”
فهذا كلام متين من هذا الإمام فعض عليه ..
وقد اتهم بعض أهل البدع شيخ الإسلام بأنه يقول بقدم هذا العالم … وهذا باطل فإن شيخ الإسلام تكلم عن القدم النوعي للمخلوقات بمعنى وجودها شيئاً فشيئاً ولم يقر قدم العالم بل أبطله وفرق بين المسألتين ..
يقول رحمه الله في الصفدية (2/144) :
“ولكن النوع أزلي بمعنى وجوده شيئاً فشيئاً “
ثم قال :
“ولفظ القديم والأزلي فيه إجمال . فقد يراد بالقديم الشيء المعين الذي ما زال موجوداً ليس لوجوده أول ، ويراد بالقديم الشيء الذي يكون شيئاً بعد شيء ، فنوعه المتوالي قديم ، وليس شيء منه بعينه قديماً ولا مجموعه قديم ، ولكن هو في نفسه قديم بهذا الاعتبار ، فالتأثير الدائم الذي يكون شيئاً بعد شيء ، وهو من لوازم ذاته ، هو قديم النوع ، وليس شيء من أعيانه قديماً “
وخلاصة الكلام : إن قولنا بحوادث لا أول لها نحتاجه في الرد على الفلاسفة الذين يقولون بقدم العالم كما نحتاجه في الرد على الجهمية الذين يعطلون الصفات ..
والذي يظهر لي أن القول بحوادث لا أول لها في غير هذين الموضعين لا يضر بخلاف القول بحوادث لا أول لوجودها فهذا باطل لأنه يستلزم قدم أعيانها .
ويمكن أن تتضح المسألة إذا ناقشناها من الطرف الآخر وهو المستقبل .. فنحن نقول إن نعيم الجنة وأهلها خالدون إلى مالا نهاية وهذا لا يتعارض مع اعتقادنا أن الله هو الآخر فليس بعده شيء ولو قلنا أن ذلك النعيم لا آخر له بمعنى أن البقاء واجب له لذاته لكان كفرا … والله أعلم

قال الشيخ بخيت المطيعي في سلم الوصول لشرح نهاية السول (2/103) :
” ولزوم حوادث لا أول لها لا يضر العقيدة إلا إذا قلنا لا أول لها بمعنى لا أول لوجودها وهذا مما لم يقل به أحد بل الكل متفق على ان ما سوى الله تعالى مما كان أو يكون حادث أي موجود بعد العدم بقطع النظر عن أن تقف آحاده عند حد من جانبي الماضي والمستقبل أو لا تقف عند حد من جانبهما أو من أحدهما الا ترى ان الإجماع قام على أن نعيم الجنة لا يتناهى ولا يقف عند حد في المستقبل وبعد كونه حادثاً بمعنى أنه موجود بعد العدم لا يضرنا أن نقول لا آخر له بمعنى عدم انقطاع آحاده وعدم وقوفها عند حد ولو قلنا أنه لا آخر لها بمعنى أن البقاء واجب لها لذاتها لكان كفرا ، فكذلك من جانب الماضي نقول حوادث لا أول لها بمعنى أنها لا تقف آحادها عند حد تنتهي اليه وكل واحد منها موجود بعد العدم ولكنها لا تتناهى في دائرة ما لا يزال ولو قلنا أنها لا أول لوجودها ولا افتتاح له لكان ذلك قولاً بقدمها وذلك كفر “

شبهة :
كتبت هذا المقال في أحد المنتديات فعلق بعضهم بقوله :
أن كونه سبحانه لم يكن يخلق فى فترة ما, لا يلزم منه ألا يكون متصفا بصفة الخلق, بل هو سبحانه يخلق وقت ما شاء, و لو شاء ألا يخلق شيئا فى فترة ما, ما خلق, و ما أجبره أحد سبحانه أن يخلق, و ليس هو مضطرا إلى أن يخلق..

والجواب :
هذا القول يلزم منه لوازم قد توقع صاحبها في الكفر والعياذ بالله !
قال الشيخ محمد عبده في حاشيته على ( شرح الدواني للعقائد العضدية ) :
” وقد استشهد الحكماء على قدم الممكنات بدليل نقلي ، وهو ما ذم الله به اليهود (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان) .
وبيانه : أنه لو قيل بحدوث العالم (بمعنى أن الله مكث زمناً ثم خلق ) فقد قيل بأنه الحق في أزليته لم يزل معطلاً عن الفيض والجود أزمنة غير متناهية لا ابتداء لها ثم أخذ يعطي الوجود ، ومعلوم أنه على فرض أنه لم يزل خلاّقاً إلى الأبد فكل ما خلقه فهو متناهٍ ، ونسبة المتناهي إلى غير المتناهي كلا نسبة (أي لاتذكر) ، وذلك جلي التصور ، فنسبة إعطاء الحق للوجود إلى منعه عن كل موجود ليست بشيء ، وإن هذا إلا غل اليد ، حيث أن الإعطاء ليس بشيء يذكر في جانب المنع ، وهذا من الشناعة بمكان ” .
إذا علم هذا ظهر لطالب العلم أن المسألة ليست بهذه البساطة التي ظنها الإخوة المشار إليهم وكأن قولهم ذاك أرادوا به الخروج من الخلاف فوقعوا فيما هو أشر مما أرادوا الهروب منه .
ولبيان المسألة على الوجه الصحيح أنقل لكم كلاما لشيخنا ابن عثيمين رحمه الله .. قال في شرحه للعقيدة السفارينية :
“قال بعض العلماء : نعم ، أتى عليه وقت لم يكن يفعل شيئاً ، ثم حدث الفعل ، لأنك إن لم تقل بذلك لزم أن تجعل المفعول قديماً ، فإنك إذا اثبت لله فعلاً – فلا فعل إلا بمفعول – وحينئذٍ يلزمك أن تقول بقِدم المفعولات ، فتقع في الضلال .
ولهذا اختلف الناس في هذه المسالة …. لكن ليكن معلوماً أن الله لم يزل ولا يزال خلاقًا ، وأن هناك مخلوقات غير السماء والأرض ؛ لأن المصلي يقول : ( ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد ) ، فهناك مخلوقات قبل السموات وقبل العرش لا نعرف ما هي ؛ لأن الله لم يزل ولا يزال فعالا ، ولا يلزم من هذا أن قدم المفعول كقدم الفاعل ؛ لأنه باتفاق العقلاء أن المفعول مسبوق بالفاعل ؛ لأن المفعول نتيجة فعل الفاعل ،وفعل الفاعل وصف له ، ولابد أن يكون الموصوف سابقا على الصفة ، ثم المفعول بعد الصفة .
يعني لما كان عندنا مفعول وفعل وفاعل ، فالمفعول لا شك أنه متأخر عن فعل الفاعل ، وفعل الفاعل متأخر عن الفاعل ، وعلى ذلك فلا يلزم من قولنا بقدم الحوادث أن تكون قديمة كقدم الله ، وأن تكون شريكة لله في الوجود.
وهذا هو الحق الذي ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، وقد شنع عليه خصومه تشنيعاً عظيماً ، وقالوا : هذا قول الفلاسفة ، وهذا قول باطل ، ولكنه رحمه الله تخلص منهم بأنه لا يلزم من قدم المفعول أن يكون مساوياً للفاعل ، لأنه بضرورة العقل أن المفعول لابد أن يكون مسبوقاً بفعل ، والفعل لابد أن يكون مسبوقاً بفاعل ، وهذا هو الحق .
وقول المؤلف : ( وضل من أثنى عليها بالقدم ) إن أراد من أثنى عليها بالنوع فليس بصحيح ، وإن أراد من أثنى عليها بالعين فهذا صحيح ؛ لأن ما من شيء من المخلوقات يكون قديما ليس له أول أبدا .
وخلاصة القول في ذلك أنه ليس في الوجود إلا خالق ومخلوقا ، وأن الخالق جل وعلا لم يزل ولا يزال موجوداً ، وأما المخلوق فالأزل في حقه ممتنع ، فليس هناك شيء من المخلوقات يكون أزلياً أبداً ، بل ما من مخلوق إلا وهو حادث بعد أن لم يكن ؛ فالسموات والأرض والجبال والشجر والدواب والعرش والكرسي والقلم وغير ذلك كله مخلوق من العدم ، ولم يقل أحد بقدمه إلا الفلاسفة .
فالفلاسفة هم الذين قالوا بقدم العالم ، وأن العالم لم يزل ولا يزول ، ولهذا يقولون : إن المادة لا تفنى كما أنها ليست حادثة ، وهذا لا شك أنه شرك مخرج عن الملة ،ومن ادعى أن مع الله شريكاً في الوجود فهو مشرك .”انتهى

وخلاصة الكلام :
أن الله فعال لما يريد فما أراده فعله وما فعله فقد أراده بخلاف العبد الضعيف فإنه يريد ما لا يفعل ويفعل مالا يريد .
ففعله سبحانه وإرادته متلازمان وماثم فعّال لما يريد إلا الله وحده .
قال ابن أبي العز :
“والقول بأن الحوادث لها أول، يلزم منه التعطيل قبل ذلك، وأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لم يزل غير فاعل، ثُمَّ صار فاعلاً.”.
قلت فمن وفقه الله لفهم هذه المسألة عرف الرد على الفلاسفة الذين يقولون بقدم العالم وكذلك عرف الرد على الجهمية المعطلة الذين يقولون بنفي الصفات الفعلية لله تعالى ..
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى .

Author: DrSaud.Com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *