الأصل عدم العمل بقول أحد إلا بحجّة قال الله تعالى ( اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ) – الأعراف (3)
وقد نبه على ذلك جمع من العلماء كشيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى وابن القيم في إعلام الموقعين ، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله ، والفلاَّني في إيقاظ همم أولي الأبصار ، وصديق حسن خان في الدين الخالص ، والشوكاني وغيرهم رحمهم الله تعالى .
والأدلة على هذا الأصل كثيرة منها قوله تعالى ( أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ 21 بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ 22 وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ 23 قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ۖ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ 24 فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ۖ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ 25 ) (الزخرف)
والتقليد هو العمل بقول أحد بدون حجَّة . والتقليد أخو الجهل ، لأن الله ذم التقليد وفي نفس الوقت ذم الجهل . والأدلة على ذم التقليد كثيرة منها قوله تعالى ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ( التوبة 31) وقوله تعالى ( وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ) (الأحزاب 67) وقوله تعالى ( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ) (الزخرف 22) ومثل هذا في القرآن كثير في ذم التقليد.
وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد ولم يمنعهم كفر أولئك الذين نزلت فيهم ، من الاحتجاج بها ، لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر إحداهما وإيمان الأخرى ، وإنما وقع التشبيه بين المقلِّدِين بغير حجة للمقلَّد ، كما لو قلَّد رجلاً فكفر ، وقلد آخر فأذنب ، وقلد آخر في مسألة فأخطأ وجهها ، كان كل واحد ملوماً على التقليد بغير حجة ، قاله ابن القيم وهو عند ابن عبد البر في جامعه .
وفي هذا المعنى يقول أبو عمر ابن عبد البر :
يا سَائِلِي عَنْ مَوْضِعِ التَّقْلِيدِ خُذْ عَنِّي الْجَوَابَ بِفَهْمِ لُبٍّ حَاضِرِ
وَاصْغِ إِلَى قَوْلِي وَدِنْ بِنَصِيحَتِي وَاحْفَظْ عَلَيَّ بَوَادِرِي وَنَوَادِرِي
لَا فَرْقَ بَيْنَ مُقَلِّدٍ وَبَهِيمَةٍ تَنْقَادُ بَيْنَ جَنَادِلَ وَدَعَاثِرِ
ومن أشد ما بليت به الأمه تقليد الأئمة في الفروع ومخالفتهم في الأصول وأئمة الفقه ليسوا محصورين في الأربعة المشهورين فهنالك الليث بن سعد كان معاصرًا لمالك قال فيه الشافعي: ” الليث أفقه من مالك لولا أن أصحابه لم يقوموا به” .
وهنالك سفيان الثوري في العراق والأوزاعي في الشام وغيرهم كثير .
لكن المروي عن الأئمة الأربعة خاصة أنهم حذروا من أخذ أقوالهم بدون دليل .
قال أبو حنيفة رحمه الله : ” هذا رأيي، وهذا أحسن ما رأيت، فمن جاء برأي خير منه قبلناه ” .
وقال مالك رحمه الله : ” إنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة ” .
وقال الشافعي رحمه الله : ” إذا صح الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط، وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي “.
وقال أيضاً : ” رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب “.
لكن من جاء بعدهم من المقلدين خالفوهم في هذه الأصول وتعصبوا لهم حتى قال بعضهم :
فَلَعْنَةُ رَبِّنَا أَعْدَادَ رَمْلٍ … عَلَى مَنْ رَدَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَهْ
وقال آخر ” لولا مالك كان الدين هالك “
وآخر يقول : أنا حنبلي ما حييت وأن أمت فوصيتي للناس أن يتحنبلوا .
فلا بد إذاً من طلب العلم للتخلص من هذه الصفة الذميمة التي ذمها الشرع كما مر معنا ، وطلب العلم فريضة .
ففي سنن ابن ماجة:
حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ شِنْظِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ … ) والحديث صحيح دون زيادة “ومسلمة ” .
قال شيخ الإسلام (مجموع الفتاوى 28/80) ” وطلب العلم الشرعي فرض على الكفاية إلا فيما يتعين مثل طلب كل واحد علم ما أمر الله به وما نهاه عنه فإن هذا فرض على الأعيان كما أخرجاه في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( مَنْ يُرِدِ االله بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ) ” ا.هـ
والناس من جهة تلقي الأحكام ثلاثة أصناف مقلد ومتبع ومجتهد ، فالمقلد هو العامي – وليس كل عامي – الذي لا يفقه الأدلة كحال كثير من الأعراب الأميين فهذا مذهبه مذهب مفتيه كما يذكر ذلك العلماء ، والمتبع هو الذي لا يعمل إلا بالدليل ، والمجتهد هو الذي وصل إلى درجة استنباط الأحكام من الأدلة ، وهذا لا يحصل لأحد إلا بتوفر شروط وامتناع موانع ، والعلماء يذكرون في هذا الباب أنَّ الاجتهاد نوعان اجتهاد مطلق ، واجتهاد في المذهب ولسنا بحاجة إلى تفصيل هذين الأمرين . المهم أن تعلم أن دائرة الاجتهاد على الرغم من أنها لم تغلق إلا أنها ضيَّقة وكذلك دائرة التقليد ، إلا أنها أضيق من دائرة الاجتهاد .
وذلك لأن الأصل في كل مسلم أن يكون متبعاً تحقيقاً لأمر الله سبحانه وتعالى ( اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ) – الأعراف (3)
. بل إن اتباع الدليل يتأكد عند الخلاف والتنازع اتباعا لأمر الله سبحانه وتعالى ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) (النساء 59) .
ولذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله ” ليس لأحد أن يحتج بقول أحد في مسائل النزاع ” (انظر مجموع الفتاوى 26/202) .
ولا يعتقد أحد أننا نريد من كل الأمة أن يصبحوا علماء ، وحتى لو أردنا ذلك فإنه أمر مستحيل ، لأن الله خلق الناس متفاوتين في العقول والقدرات ، وإنما نريد بكلامنا من كان قادراً .
قد رشحوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَل.
والمتأمل يجد في السنَّة أوامرَ كثيرة لا يتسنى للعبد تحقيقها حتى يتعلم الدليل ويكون ديدنه السؤال عن هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، من ذلك :
ما جاء في صحيح البخاري :
قال :حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُالْوَهَّابِ قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أبي قِلابَةَ قَالَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ : ( أَتَيْنَا إلى النَّبِيِّ – صلى الله عليه وآله وسلم – وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وآله وسلم – رَحِيمًا رَفِيقًا فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّا قَدِ اشْتَهَيْنَا أَهْلَنَا أو قَدِ اشْتَقْنَا سَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا بَعْدَنَا فَأَخْبَرْنَاهُ قَالَ ارْجِعُوا إلى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ وَذَكَرَ أَشْيَاءَ أَحْفَظُهَا أو لا أَحْفَظُهَا وَصَلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فإذا حَضَرَتِ الصَّلاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ )
فهذا الأمر النبوي ” صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ” قد فوَّتَه كثير من الناس ممن تمذهبوا بأحد المذاهب ، أو قلدوا في ذلك عالماً ، فتجد كلاً منهم يصلي صلاة إِمامه لا ” كمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ” وقد كانوا قادرين على تعلم صلاة النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – من الأحاديث التي جاءت في وصفها ، فقد حرص صحابة رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – على تعليمها لأقوامهم ، كما رأوها من النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – فقد جاء في صحيح البخاري :
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ( إِنِّي لا آلُو أن أُصَلِّيَ بِكُمْ كَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وآله وسلم – يُصَلِّي بِنا قَالَ ثَابِتٌ كَانَ أَنَسُ ابنُ مَالِكٍ يَصْنَعُ شَيْئًا لَمْ أَرَكُمْ تَصْنَعُونَهُ كَانَ إذا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَامَ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ قَدْ نَسِيَ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ قَدْ نَسِيَ ) والحديث عند مسلم .
ومن ذلك أيضا ما رواه البخاري :
قال : حَدَّثَنَا عَبْدُالْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِاللَّهِ الأوَيْسِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أن عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ أَخْبَرَهُ أن حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ أنه رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ : ( دَعَا بِإِنَاءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلاثَ مِرَارٍ فَغَسَلَهُمَا ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الإنَاءِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا وَيَدَيْهِ إلى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلاثَ مِرَارٍ ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاثَ مِرَارٍ إلى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وآله وسلم – مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ) وهو عند مسلم.
وفي صحيح البخاري أيضاً:
حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْقُرَشِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي مُعَاذُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ أن حُمْرَانَ بْنَ أَبَانَ أَخْبَرَهُ قَالَ : ( أَتَيْتُ عثْمانَ بْنَ عَفَّانَ بِطَهُورٍ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى الْمَقَاعِدِ فَتَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وآله وسلم – تَوَضَّأَ وَهُوَ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ مَنْ تَوَضَّأَ مِثْلَ هَذَا الْوُضُوءِ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ قَالَ وَقَالَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وآله وسلم – لا تَغْتَرُّوا ) وهو عند مسلم .
فالذين يقولون : يكفي أن نعلِّم الناس الوضوء المجزيء ، والصلاة المجزئة هكذا بدون تفصيل ، أين هم من هذه الأوامر النبوية وهذا الأجر العظيم الذي فوَّتوه على الناس ، مثل قوله – صلى الله عليه وآله وسلم – ” غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ” .
نسأل الله تعالى أن يعلِّمنا وأن يوفقنا للعمل بما علمنا .
ولابد هنا من التنبيه على أمر يغفل عنه كثير من الناس ذلك أن أوامر الشريعة مخاطب بها العامي وغيره ونعني بالعامي هنا من كان له نوع أهلية بحيث يفقه معنى النص المخاطب به لا كما مر معنا ، فإن العوام على مراتب ، فتنبَّه .
لذلك أحب أن أنقل لك أخي الكريم كلاماً غايةً في التحقيق يبين أن ما يدندن حوله كثير من الناس من أن العامي واجبه التقليد لا غير ، بل تجرأ بعضهم فمنع العامي من الأخذ من النصوص بالمرَّة ، إنما هو قول يحتاج إلى مراجعة وإلى تفصيل.
قال الفلاَّني رحمه الله تعالى في إيقاظ همم أولي الأبصار (ص52) ” قال في البحر: وإن لم يستفت – أي العامي- ولكن بلغه الخبر وهو قوله عليه وعلى آله الصلاة والسلام ” أفطر الحاجم والمحجوم ” وقوله ” الغيبة تفطِّر الصائم ” ولم يعرف النسخ ولا تأويله فلا كفَّارة عليه عندهما لأن ظاهر الحديث واجب العمل خلافاً لأبي يوسف لأنه قال : ليس للعامي العمل بالحديث لعدم علمه بالناسخ والمنسوخ . قال ابن العز في حاشية الهداية قوله ولو بلغه الحديث واعتمده يعني ” أفطر الحاجم والمحجوم ” فكذلك عند محمد يعني أنه لا كفَّارة عليه إذا احتجم ثم أكل على ظن أن الحجامة فطرته معتمدا على الحديث لأن قول الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – لاينزل عن قول المفتي ” ، و في العبارة مسامحة والأمر أعظم من ذلك … فإذا كان العامي يسوغ له الأخذ بقول المفتي بل يجب عليه مع احتمال خطأ المفتي كيف لا يسوغ الأخذ بالحديث ، فلو كانت سنَّة الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – لا يجوز العمل بها بعد صحتها حتى يعمل بها فلان وفلان لكان قولهم شرطاً في العمل بها وهذا من أبطل الباطل ، ولذا أقام الله تعالى الحجَّة برسوله – صلى الله عليه وآله وسلم – دون آحاد الأمة ، ولا يفرض احتمال خطأ لمن عمل بالحديث وأفتى به بعد فهمه ، إلاَّ و أضعاف أضعافه حاصل لمن أفتى بتقليد من لا يَعلم خطأه من صوابه ويجوز عليه التناقض والاختلاف ويقول القول ويرجع عنه ويحكى عنه عدة أقوال ، وهذا فيمن له نوع أهليَّة وأما إذا لم يكن له أهليَّة ففرضه ما قال الله تعالى (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) (النحل 43) .
وإذا جاز اعتماد المستفتي على ما يكتب له من كلامه أو كلام شيخه وإن علا فلأن يجوز اعتماد الرجل على ما كتبه الثقات من كلام رسول الله أولى بالجواز ، وإذا قُدِّر أنه لم يفهم الحديث فكما لم يفهم فتوى المفتي فيسأل من يعرف معناها فكذلك الحديث .
فصل
التقليد يكون عند الضرورة فقط :
التقليد كما بيّنّا آنفاً هو من الأمور غير المحمودة ، ومع ذلك فقد يضطر إليه العالم، لذلك قال العلماء التقليد ضرورة ، وزيادة في البيان لهذه المسألة المهمة أقول : إن التقليد أمر قد تدفع إليه الضرورة ، فإذا وقع فيه العبد رغما عنه ، فينبغي له أن يتقي أمرين :
أولهما ) التعصب ، فالواجب ألاَّ يتعصب أحد ، إلا لقول النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – ، و أما مَن دونه فكما قال الإمام مالك ” كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر “
وقد يبلغ التعصب ببعض الناس ، أن يُنَصِّب أحداً من العلماء فيجعل قوله وفهمه عياراً على الكتاب والسنَّة ، فما وافق قوله منهما قُبل ، وما خالف لم يُقبل ، بل ويصل الأمر بهذا البعض أحياناً ، إلى أن يقبل قول من نصَّبه بدون حجة ، ويرد قول نظيره أو من هو أعلم منه والحجّة معه .
قال شيخ الإسلام (مجموع الفتاوى5/100) ” وملاك الأمر أن يهب الله للعبد حكمة وإيماناً بحيث يكون له عقل ودين حتى يفهم ويدِين ، ثم نُور الكتاب والسنَّة يغنيه عن كل شيء ، ولكن كثيراً من الناس قد صار منتسباً إلى بعض طوائف المتكلمين ومحسناً للظن بهم دون غيرهم ومتوهماً أنهم حققوا في هذا الباب ما لم يحققه غيرهم فلو أُتي بكل آية ما تبعها حتى يؤتى بشيء من كلامهم …. ومن كان لا يقبل الحق إلا من طائفة معينة ثم لا يتمسك بما جاءت به من الحق ففيه شبه من اليهود “
فلا ينبغي إذاً التعصب لأحد ، والظن أن كل ما يقوله موافق للكتاب والسنَّة ، فإن هذا لا يُعرف حتى لكبار الصحابة ، لكن ما ذكر عن أبي بكر رضي الله عنه – فيما نُقل عنه فقط – فقد قال شيخ الإسلام (مجموع الفتاوى 4/403) “و أما الصديق فإنه مع قيامه بأمور من العلم والفقه عجز عنها غيره حتى بيَّنها لهم ، لم يُحفظ له قولٌ مخالفٌ نصاً ” .
وكثير ممن يقع في هذا النوع من التعصب ، تجدهم يُسَلُّون أنفسهم أنهم ما وقعوا فيما وقعوا فيه ، إلا بسبب تعظيمهم لأهل العلم ، وأنهم لم يأخذوا أقوالهم بغير حجَّة ودليل ، لكن ثقتهم في هؤلاء العلماء ، وحيث إنهم على تقوى وعلم ، تجعلهم يطمئنون إلى كلامهم ، ويقدِّمون قولهم على قول غيرهم . والعجيب أنهم يخصُّون بهذا الشعور علماء دون علماء ، وحيث الأمر كذلك ، فإن هذا التعظيم وهذا التوقير ليس من النوع الذي شرعه الله ، وإلا لكان الجميع فيه سواء . وهنا يظهر عدم الاطمئنان لهذا المسلك الذي قد يجر صاحبه إلى الغلو والعياذ بالله . ولايزال العلماء يحذرِّون من الغلو في الصالحين ، ومنهم العلماء أنفسهم ، قال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في كتابه التوحيد ” باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين ” قال شارحه الشيخ العلاَّمة سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحم الله الجميع ” أراد أن يبيِّن السبب في ذلك ليُحذر ، وهو الغلو مطلقاً ، لاسيما في الصالحين ، فإنه أصل الشرك قديماً وحديثاً ، لقرب الشرك بالصالحين من النفوس ، فإن الشيطان يظهره في قالب المحبة والتعظيم ”
ثم ذكر من المسائل و الفوائد المتعلقة بهذا الباب :
ومنها أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل ، فالأول : محبة الصالحين ، والثاني: فَعَل أناسٌ من أهل العلم والدين شيئاً ، أرادوا به خيراً ، فظن من بعدهم أنهم أرادوا غيره . ومنها مضرة التقليد وكيف آل بأهله إلى المروق من الإسلام .
ثم نقل الشارح قول شيخ الإسلام رحمه الله فيمن اتبع عالماً وهو يعلم أنه خالف في ذلك ما جاء في الكتاب أو السنَّة ، قال” ولكن من علم أن هذا الخطأ فيما جاء به رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – فله نصيب من الشرك الذي ذمه الله “
وفي باب :
من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله .
وقول المصنف رحمه الله: وقال ابن عباس يوشك أن تنـزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله وتقولون قال أبو بكر وعمر .
قال الشارح رحمه الله : هذا الكلام قاله ابن عباس لمن ناظره في متعة الحج . وكان ابن عباس يأمر بها ، فاحتج عليه المناظر بنهي أبي بكر وعمر عنها أي : هما أعلم منك وأحق بالاتباع . فقال هذا الكلام الصادر عن محض الإيمان وتجريد المتابعة للرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – وإن خالفه من خالفه كائناً من كان ، كما قال الشافعي:” أجمع العلماء على أن من استبانت له سنَّة رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – لم يكن له أن يدعها لقول أحد “. فإذا كان هذا كلام ابن عباس لمن عارضه بأبي بكر وعمر وهما هما ، فماذا تظنه يقول لمن يعارض سنن الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – بإمامه وصاحب مذهبه الذي ينتسب إليه ويجعل قوله عياراً على الكتاب والسنَّة فما وافقه قبله وما خالفه رده أو تأوله والله المستعان وما أحسن ما قال بعض المتأخرين :
فإن جاءهم فيه الدليل موافقاً لما كان للأباء إليه ذهــاب
رضوه وإلا قيـل هذا مؤوَل ويُركب للتأويل فيه صعاب .
ولا ريب أن هذا داخل في قوله تعالى ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (31التوبة ) ا.هـ
ولا بأس أن أطيل في هذه المسألة لأن المشكلة التي كان يواجهها أنصار السنَّة قديماً ولازالوا ، هي التعصب لقول الشيخ بدون دليل و أما الآن فهي التعصب لفهم الشيخ للدليل وإن خالف دليلاً آخر.
قال مصنف كتاب التوحيد الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى : وقال أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان والله تعالى يقول ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (النور 63) أتدري ما الفتنة . الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك .
قال الشارح رحمه الله : ومراد أحمد الإنكار على من يعرف إسناد الحديث وصحته ثم بعد ذلك يقلد سفيان أو غيره ويعتذر بالأعذار الباطلة ، إما بأن الأخذ بالحديث اجتهاد والاجتهاد انقطع منذ زمن ، و إما بأن هذا الإمام الذي قلدته أعلم مني فهو لا يقول إلا بعلم ، ولا يترك هذا الحديث مثلاً إلا عن علم ، و إما بأن ذلك اجتهاد ويشترط في المجتهد أن يكون عالماً بكتاب الله عالماً بسنَّة رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – ، وناسخ ذلك ومنسوخه وصحيح السنَّة وسقيمها ، عالماً بوجوه الدلالات عالماً بالنحو والعربية والأصول ونحو ذلك من الشروط التي لعلها لا توجد تامة في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما قاله المصنف ، فيقال له : هذا إن صح فمرادهم بذلك المجتهد المطلق أما أن يكون ذلك شرطاً في جواز العمل بالكتاب والسنَّة فكذب على الله وعلى رسوله – صلى الله عليه وآله وسلم – وعلى أئمة العلماء ، بل الفرض والحتم على المؤمن إذا بلغه كتاب الله وسنَّة رسوله – صلى الله عليه وآله وسلم – وعلم معنى ذلك في أي شيء كان أن يعمل به ولو خالفه من خالفه ، فبذلك أَمرنا ربنا تبارك وتعالى ونبينا – صلى الله عليه وآله وسلم – وأجمع على ذلك العلماء قاطبة إلا جهَّال المقلدين وجفاتهم ، ومثل هؤلاء ليسوا من أهل العلم كما حكى الإجماع على أنهم ليسوا من أهل العلم أبو عمر ابن عبد البر وغيره ، قال الله تعالى اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذَّكرون وقال تعالى وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين فشهد تعالى لمن أطاع الرسول بالهداية ، وعند جفاة المقلدين أن من أطاعه ليس بمهتد إنما المهتدي من عصاه وعدل عن أقواله ورغب عن سنته إلى مذهب أو شيخ ونحو ذلك ، وقد وقع في هذا التقليد المحرَّم خلق كثير ممن يدعي العلم والمعرفة بالعلوم ويصنف التصانيف في الحديث والسنن ثم بعد ذلك تجده جامداً على أحد هذه المذاهب ويرى الخروج عنها من العظائم .
وفي كلام أحمد إشارة إلى أن التقليد قبل بلوغ الحجَّة لا يذم إنما المذموم المنكر الحرام ، الإقامة على ذلك بعد بلوغ الحجة ، نعم ويُنكر الإعراض عن كتاب الله وسنَّة رسوله والإقبال على تعلم الكتب المصنفة في الفقه استغناء بها عن الكتاب والسنَّة بل إن قرأوا شيئاً من كتاب الله وسنَّة رسوله فإنما يقرءون تبركاً لا تعلماً وتفقهاً ، أو لكون بعض المُوقِفين وقف على من قرأ البخاري مثلاً ، فيقرءونه لتحصيل الوظيفة لا لتحصيل الشريعة فهؤلاء من أحق الناس بدخولهم في قول الله تعالى وقد آتيناك من لدنا ذكراً من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملاً وقوله تعالى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى إلى قوله ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .
فإن قلت : فماذا يجوز للإنسان من قراءة هذه الكتب المصنفة في المذاهب؟ قيل يجوز من ذلك قراءتها على سبيل الاستعانة بها على فهم الكتاب والسنَّة وتصوير المسائل فتكون من نوع الكتب الآلية “ا.هـ
ثم ذكر رحمه الله أقوال الأئمة الأربعة في التحذير من تقليدهم وتقديم كلامهم على الكتاب والسنَّة فإذا كان هذا يقال في حق أولئك الأئمة الأعلام فكيف الحال الآن بمن قدم قول شيخه وهو يخالف ما ظهر له من الكتاب أو السنَّة بحجة أن شيخه معه نصوص من الكتاب والسنَّة تؤيد قوله وأن شيخه أعلم منه .
قال رحمه الله ” على أن الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم قد نهوا عن تقليدهم مع ظهور السنَّة فكلام أحمد الذي ذكر المصنف كاف عن تكثير النقل عنه . وقال أبو حنيفة : إذا جاء الحديث عن الرسول فعلى الرأس والعين وإذا جاء عن الصحابة فعلى الرأس والعين وإذا جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال وفي ” روضة العلماء ” سئل أبو حنيفة إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه . قال اتركوا قولي لكتاب الله . قيل إذا كان قول الرسول يخالفه . قال اتركوا قولي لخبر الرسول قيل إذا كان قول الصحابة يخالفه . قال اتركوا قولي لقول الصحابة . فلم يقل هذا الإمام ما يدعيه جفاة المقلدين له أنه لا يقول قولاً يخالف كتاب الله حتى أنزلوه بمنـزلة المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى .
وروى البيهقي في السنن عن الشافعي أنه قال : إذا قلت قولاً وكان عن النبي خلاف قولي فما يصح من حديث رسول الله أولى فلا تقلدوني . وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول إذا وجدتم في كتابي خلاف سنَّة رسول الله فقولوا بسنَّة رسول الله ودعوا ما قلت . وتواتر عنه أنه قال : إذا صح الحديث – أي خلاف قولي – فاضربوا بقولي الحائط .
وقال مالك : كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله وكلام الأئمة مثل هذا كثير ” ا.هـ
قلت : وعلى هذا المنهج في الاتباع ونبذ التقليد أئمة هذا الزمان ممن قد يظن بهم البعض أنهم حنابلة مقلدون وهم على خلاف ما يُظن بهم منهم شيخنا الإمام العلاَّمة مفتي الديار السعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله فهو يقول عن نفسه ” أنا والحمد لله لست متعصباً ولكني أحكِّم الكتاب والسنَّة وأبني فتاواي على ما قاله الله ورسوله لا على تقليد الحنابلة ولا غيرهم . الفتاوى التي تصدر مني إنما ابنيها على الأدلة الشرعية من الكتاب والسنَّة حسب ما ظهر لي وهذا هو الذي سرت عليه منذ أن عرفت العلم منذ أن كنت في الرياض قبل القضاء وبعد القضاء وكذلك في المدينة وما بعد المدينة وإلى الآن والحمد لله .” وقد نقل هذا البيان في لقاء مع فضيلته بإحدى المجلات السيَّارة أ.هـ ( وانظر مجموع فتاويه حفظه الله (4/166) )
وقال حفظه الله كما في مجموع فتاويه (4/353) ” ولا شك أن الحق لا يرتبط بالمذهبية كما أنه لا يعرف بالرجال وإنما الرجال يعرفون به “
وهنا مسألة لا بد من بيانها وهي : هل يجوز الإفتاء بالتقليد .
الذي يظهر لي أنه وإن كان يجوز للعبد أن يتعبد بالتقليد إذا دعت لذلك الضرورة كما مر معنا آنفاً إلا أنه لا يجوز له أن يفتي بالتقليد لأنه لا ضرورة تدعو إلى ذلك والله سبحانه وتعالى يقول ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً .
قال الفلاَّني رحمه الله تعالى في إيقاظ همم أولي الأبصار (ص97) ” قلت : وحاصل ما فهمناه من كلام ابن رشد أن لا يجوز لأحد أن يفتي إلا فيما عرف دليله من الكتاب والسنَّة والإجماع سواء التزم مذهباً معيناً أم لا ، كان مالكياً أو لا ، والله تعالى أعلم ” .
لكن لا بد من التفريق بين الفتوى بالتقليد ونقل الفتوى بدون دليل فالثاني جائز دون الأول لأنه من باب الرواية فقول المرء قال الشيخ فلان هذا الأمر لا يجوز ليس مثل قوله هذا لا يجوز فإذا سئل عن الدليل قال هذا قول الشيخ فلان فالأول كما قلنا من باب الرواية وأما الثاني فهو تقوُّل على الله بغير علم فتنبَّه .
الأمر الثاني الذي ينبغي أن يتقيه من وقع في التقليد : ينبغي ألا يجعل ديدنه التقليد فيعرض عن تعلم الأدلة اكتفاءً بقول شيخه أو إمامه ، وعلى هذا يُنـزَّل قول بعض العلماء لا يجوز التعبد بالتقليد . ذلك لأن الله لم يتعبدنا بقول أحد وإنما تعبدنا بالكتاب والسنَّة هذا هو الأصل ولا يجوز أن يحيد عنه العبد إلا بعذر ينجيه أمام ربه .
فالتعبد بالتقليد لم يكن معروفاً في الصدر الأول . فالصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا كلهم على درجة واحدة من العلم والفقه بل إن فقهاء الصحابة كانوا معدودين كما ذكر ذلك ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين ، ولقد كان منهم رضي الله عنهم أعراب لا يُعدُّون من أهل العلم والفقه ، وكان من التابعين رحمهم الله الذين عاصروا صحابة رسول الله من هو عامي لا ينسب إلى أهل العلم والفقه أيضا ، ورغم ذلك – أي رغم توفر الحاجة إلى التقليد – لم نجد فيهم بكرياً أو عمرياً .
فينبغي لمن أراد أن يعبد الله على بصيرة بادي ذي بدء – حتى في سؤاله لأهل العلم – أن يسأل عن السنن والأدلة والآثار وهذا هو معنى قوله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون فقد ذكر جمع من العلماء أن شأن أهل العلم من الصحابة والتابعين يسأل الجاهلُ العالمَ عن الآيات والسنَّة … فكان ابن عباس يَسأل عما قاله رسول الله أو فعله … وكذلك الصحابة كانوا يسألون نساءه عما يخفى عليهم من سننه ، سيَّما عائشة رضي الله عنها وكذلك التابعون ، كانوا يسألون الصحابة عن أقوال رسول الله وأفعاله وسننه ، وكذلك أئمة الفقه قال الشافعي لأحمد ” يا أبا عبد الله أنت أعلم بالحديث مني فإذا صح الحديث فأعلمني حتى أذهب إليه شامياً كان أو كوفياً أو بصرياً “. (انظر الرسائل المنيرية1/41 ، إعلام الموقعين 2/215)
وأمر آخر لمن أراد أن يعبد الله على بصيرة ، أن يقدم قول من عرف حُجَّته من الكتاب والسنَّة ، على قول من لم يعرف حُجَّته ، لأن الأصل كما قال ابن القيِّم ” عدم العمل بقول الغير إلا بحجة ” .
وكما قال سعيد بن جبير كما عند مسلم ” قد أحسن من انتهى إلى ما سمع “
ولزيادة بيان لهذا الأمر ، ينبغي أن تعلم أن للمكلف أمام اختلاف عالمين في مسألة ثلاث حالات :
الأولى ) أن يعرف حُجَّة العالم الأول ودليله الذي يستدل به ، ولا يعرف حُجَّة العالم الآخر ، فحينئذ يجب عليه الأخذ بقول العالم الذي عرف حجَّته ودليله ، لأن الله سبحانه وتعالى يقول اتبعوا ما أنزل عليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء .
الثانية ) أن يعرف حجَّة العالم الأول ودليله الذي يستدل به ، وفي نفس الوقت يعرف حجَّة العالم الآخر ، فهنا لابد من التمييز بين حالتين :
إما أن يفهم الحجَّتين ، ويستطيع أن يميز أيهما أقوى ، فحينئذ يجب عليه أن يأخذ بقول العالم الذي حجَّته أقوى ،كما قال سعيد بن المسيب فيما أخرجه مسلم ” قد أحسن من انتهى إلى ما سمع “.
و إما أنه لا يستطيع أن يميِّز ، فحينئذ له أن يأخذ بقول الذي يُشهد له بأنه أعلم و أتقى ، بعد بذل الجهد ، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها .
الثالثة ) إذا لم يعلم حجَّة أي من العالمين ، بعد بذل الجهد ، فحينئذ له أن يأخذ بقول الذي يُشهد له بأنه أعلم وأتقى .
قال شيخ الإسلام (مجموع الفتاوى 20/212) :
” والاجتهاد ليس هو أمراً واحداً لا يقبل التجزيء والانقسام ، بل قد يكون الرجل مجتهداً في فن أو باب أو مسألة دون فن وباب ومسألة ، وكل أحد فاجتهاده بحسب وسعه . فمن نظر في مسألة تنازع العلماء فيها ، ورأى مع أحد القولين نصوصاً لم يعلم لها معارضاً ، بعد نظر مثله فهو بين أمرين :
– إما أن يتبع قول القائل الآخر ، لمجرد كونه الإمام الذي اشتغل على مذهبه ، ومثل هذا ليس بحجَّة شرعية ، بل مجرد عادة يعارضها عادة غيره ، واشتغال على مذهب إمام آخر .
– و إما أن يتبع قول الذي ترجح في نظره ، بالنصوص الدالة عليه. وحينئذ فتكون موافقته إمام يقاوم ذلك الإمام ، وتبقى النصوص سالمة في حقه عن المعارض بالعمل ، فهذا هو الذي يصلح .”
وهنا لابد للعبد أن يتقي الله وكما قيل ” إذا جاءك الأمر أو النهي من الرسول فتمثَّل كأن النبي أمامك يأمرك وينهاك فهل يسعك مخالفته”.
فإذا قال قائل قد يكون هنالك أدلة أخرى عند العالم الذي تركتُ قوله تجعل قولَه هو الراجح ، لكنِّي لم أطلع عليها لقلة علمي . فيقال له يجب أن يُعلَم أولاً : إن الله لم يتعبدنا بهذا الظن ، وإنما تعبدنا بما ظهر لنا من البيان والحجَّة .
ثانياً : إن الله تعالى قال فاتقوا الله ما استطعتم والذي تستطيعه من البحث والسؤال ، بحسب قوة إدراكك وما آتاك الله من علم ، قد دلًّك على أن هذا هو القول الراجح في تلك المسألة فوجب الأخذ به . ويجب أن نؤكد هنا أن الله لم يتعبدنا بإصابة الحق في نفس الأمر وإنما تعبدنا بسلوك الطريق الموصلة إلى الحق ، فمن استفرغ وسعه في ذلك فقد استحق الثواب ، سواء أصاب الحق في نفس الأمر أو لم يصبه . (انظر مجموع الفتاوى 19/123،216)
ثالثاً : إذا بدا لك حجَّة ظهر لك منها أن القول الآخر هو الأحق بالاتباع فحينذاك يجب أن تنتقل إليه فتدور مع الدليل حيث دار .
قال شيخ الإسلام (مجموع الفتاوى 20/213) :
” وانتقال الإنسان من قول إلى قول لأجل ما تبين له من الحق هو محمود فيه ، بخلاف إصراره على قول لا حجَّة معه عليه ، وترك القول الذي وضحت حجَّته”.
فصل :
لا تقل في مسألة إلا ولك فيها إمام .
هذا القول ينسب إلى إمام أهل السنَّة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ، وهو قول كما يقال يكتب بماء الذهب ، لأنه يُستبعد جداً أن يأتي أحد بقول موافق للحق ، وهو من دين الله الذي يحتاج إليه الناس ولم يقل به أحد قبله ، وقد عُلم حرص السلف الصالح رضي الله عنهم ، على النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين ، وأن الأمة لا تجتمع على ضلالة .
صحيح أن الحجَّة في كلام الله وكلام رسوله ، لكن الله قد جعل علامة الحق اتباع سبيل المؤمنين .
وكم رأينا من يفتي بفتوى وقد خالف فيها الإجماع المنصوص على نقله ، ولذلك وضع العلماء شروطاً للمفتي ، منها أن يكون عالماً بالخلاف ، ولا يتم له هذا إلا بالاطلاع على كلام من سبقه من العلماء .
فصل : التقليد في تصحيح الأحاديث وتضعيفها ليس كالتقليد في الأحكام.
مر معنا أن التقليد مذموم والأصل عدم العمل بقول الغير إلا بحجَّة ، لكن التقليد في معرفة صحة الأحاديث من ضعفها ، أمره أهون ، لأنه يكون من باب قبول خبر الثقة ، وهذا ليس كالتقليد في الأحكام ، فإن بينهما فرقاً كبيراً ، فالأول تقليد في الرواية والثاني تقليد في الرأي ، وهو التقليد المذموم في الشريعة . لكن الذي ينبغي التنبيه عليه أن الأحوال الثلاث التي ذكرناها في مسألة التقليد في الأحكام ، يمكن سحبها هنا عند الاختلاف ، فلا ينبغي التعصب لقول أحد إذا ظهرت الحجة . (انظر الدين الخالص 4/114)
ومن الملاحظ أن العلماء المتقدمين قد تكلموا على أكثر الأحاديث ، فبيَّنوا صحيحها من سقيمها وبيَّنوا العلل ، وقد كانوا على درجة عالية من الحفظ والإتقان والتثبت ، تجعل الباحث يثق في كلامهم . وقد درج كبار العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره على الاعتماد على نقولهم في هذا الباب ، فهذا المسلك لاشك أنه مسلك ومنهج صحيح في معرفة صحيح السنَّة من ضعيفها ، لأن دراسة الأسانيد تُعدُّ من العلوم التي لا يستطيع أن يتصدى لها إلا المتخصصون الجهابذة . لكن الجمود على كلام المتقدمين ، دون الالتفات إلى كلام المتأخرين المشهود لهم بالعلم ، خطأ ينبغي لطالب العلم أن لا يقع فيه . فإنه من الملاحظ أيضا أن الله قد قيض لهذا العلم فرساناً استطاعوا بعد جهد مُضْن وعمل دؤوب ، أن يميزوا صحيح السنَّة من ضعيفها ، بل إنهم قد أجابوا على كثير من العلل التي أعل بها المتقدمون بعض الأحاديث ، فمن الخطأ البين أن ننتقد أسانيد بعض الأحاديث أو حتى متونها متابعين في ذلك بعض المتقدمين ، بحجَّة أنه ما ترك الأول للآخر شيئاً فنجمد على هذا ، دون النظر إلى حجج المتأخرين ، فإن هذا هو عين التقليد . فطالب العلم ينبغي له أن ينظر في حجَّة كل فريق ويميز الأقوى منها ، فيأخذ بقول صاحبها . وإن لم يكن أهلاً لذلك فالتقليد حينئذ ضرورة في حقه ، والمتقدم أحق بالتقليد من المتأخر ، لا شك في ذلك ، والمتقدم والمتأخر في كلامي السابق أمر نسبي لا يمكن وضع حد له ، إلا أن أهل عصر الرواية والتدوين وهم طبقة الحفاظ لهم ميزة خاصة .
والنظر في حجج كل فريق عند الاختلاف في تصحيح الحديث أو تضعيفه لا يتأتى إلا لمن له اطلاع ومعرفة بقواعد علم الحديث والمصطلح ، ولمن له معرفة بالمنهج الصحيح في نقد أسانيد الأحاديث وتمييز صحيحها من سقيمها . والذي نحب أن ننبه إليه هنا ، أن هنالك قواعد سار عليها أهل المصطلح وبعضها مخالفة للصواب وبعضها لا يمكن تطبيقها على ظاهرها حتى يُنظر إلى القرائن ، فينبغي لطالب العلم أن يكون ملِمَّاً بالقواعد الصحيحة وكيفية تطبيقها. ومثال ذلك أنك تجد في بعض كتب المصطلح ، أن الراوي إذا كان مجروحاً في عدالته ببدعة ينسب إليها ، لكنه ضابط لحديثه فإنه يُرد من أحاديثه كل ما وافق بدعته ، ويقبل ما عدا ذلك ، وهذا عند التأمل قول متناقض وصنيع أهل الحديث خلاف ذلك ، فنجد مثلاً أن الإمام مسلماً قد أخرج لعدي بن ثابت -وهو ينسب إلى التشيُّع – حديثاً يوافق بدعته قال مسلم في صحيحه :
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَاللَّفْظُ لَهُ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأعْمَشِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ زِرٍّ قَالَ قَالَ عَلِيٌّ : ( وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ أنه لَعَهْدُ النَّبِيِّ الأمِّيِّ إِلَيَّ أن لا يُحِبَّنِي إلا مُؤْمِنٌ وَلا يُبْغِضَنِي إلا مُنَافِقٌ )
والمعتمد عند أهل الحديث ، في مثل هذا النوع من الرواه هو ضبط الراوي وتحفظه في الرواية ، فإذا لم يشتهر بذلك فيشترطون ألا يكون داعياً إلى بدعته ، ومن أحسن من حرر هذه المسألة ابن رجب في شرحه لعلل الترمذي . وهنالك أمثلة أخرى تتعلق بالجهالة والتدليس والانقطاع والشذوذ والنكارة وزيادة الثقة ليس هذا موضع تفصيلها لكن ينبغي لطالب العلم تحريرها والاستفادة من الممارسين لهذا العلم في بيانها .
فصل : تقليد أئمة أهل السنَّة والجماعة في بعض المسائل الكبار هو عين الاتباع لمن لم يبلغ مرتبة الإمامة.
هناك مسائل في الدين ليس فيها نصوص قطعية الدلالة ، وقد افترق فيها الناس وضَّل فيها من ضَّل ، فلا يتم موافقة الحق فيها إلا بالاستقراء التام لنصوص الشريعة ، ومعرفة الجمع بين النصوص ، وهذا الأمر لا يتم إلا لكبار العلماء وهم الأئمة . ومن فضل الله أن كلام الأئمة السابقين من السلف وأتباعهم محفوظ بل ومتوافر في مثل هذه المسائل التي تعد من الأصول ، بل يصل الأمر في كثير منها إلى حد الإجماع ، الذي لا يجوز مخالفته فلا تكون الموافقة لهم في مثل هذا الحال تقليداً . وعلى كل حال فالتقليد ضرورة كما سبق أن نبَّهنا من قبل . فما نجده من بعض طلبة العلم من الخوض في كثير من المسائل الكبار التي تعد من الأصول، وذهاب كل فريق منهم برأي يخالف فيه الفريق الآخر ، هو عين الخطأ . ففي مثل هذه المسائل ، لابد لطالب العلم أن يدين الله فيها بما عليه الأئمة السابقين ، بعد معرفة أدلتهم ، وإن كانت المسألة من المسائل المستجدة فلا بد أن يرجع إلى أقوال أئمة أهل زمانه فلا تزال طائفة على الحق في كل زمان .
وقد جاء في بعض الآثار ما يؤيد هذا المسلك ويبين أنه المسلك والمنهج الصحيح وإن توهم البعض غير هذا .
فقد بوب البخاري في صحيحه :
بَاب قَوْلِهِ تَعَالَى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا وَمَا أمر النَّبِيُّ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ وَهُمْ أهل الْعِلْمِ .
وفي سن الترمذي :
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنِي الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الْمَدَنِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أن رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : ( إن اللَّهَ لا يَجْمَعُ أمتي أو قَالَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَى ضَلالَةٍ وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَمَنْ شَذَّ شَذَّ إلى النَّارِ )
قَالَ أَبُو عِيسَى : وَتَفْسِيرُ الْجَمَاعَةِ عِنْدَ أهل الْعِلْمِ هُمْ أهل الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ قَالَ و سَمِعْت الْجَارُودَ بْنَ مُعَاذٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحَسَنِ يَقُولُ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ مَنِ الْجَمَاعَةُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ قِيلَ لَهُ قَدْ مَاتَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ قَالَ فُلانٌ وَفُلانٌ قِيلَ لَهُ قَدْ مَاتَ فُلانٌ وَفُلانٌ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ ، أَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ جَمَاعَةٌ قَالَ أَبُو عِيسَى وَأَبُو حَمْزَةَ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ وَكَانَ شَيْخًا صَالِحًا وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا فِي حَيَاتِهِ عِنْدَنَا “
قلت : وحديث ابن عمر السابق صحيح دون زيادة ” وَمَنْ شَذَّ شَذَّ إلى النَّارِ ” وقد قال أبو عيسى عقبه ، هذا حديث غريب من هذا الوجه ( أنظر صحيح الجامع 1848)
فصل
تحقيق التوحيد بكمال الاتباع
لقد خلق الله سبحانه وتعالى الخلق ، من أجل عبادته كما قال في كتابه العزيز وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون . فلم يكن الخلق من أجل أمر آخر قد يتوهمه بعض الناس ، بل العبادة ، والعبادة وحدها ، بمفهومها الشامل الذي أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال ” العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة ”
والمقصود بالعبادة هنا أن نوحِّد الله بالعبادة . كما قال تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيَّمة .
والتوحيد كما يذكر العلماء نوعان ، توحيد في العبادة وتوحيد في الاتباع . فتوحيد العبادة هو أن نوحِّد الله بالعبادة وهو معنى قولنا لا اله إلا الله ، قال الله تعالى فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم والعروة الوثقى هي شهادة أن لا اله إلا الله . قال ابن القيم (كما في تيسير الغزيز الحميد ص51 ) :” وطريقة القرآن في مثل هذا أن يقرن النفي بالإثبات فينفي عبادة ما سوى الله ، ويثبت عبادته ، وهذا هو حقيقة التوحيد “.
وتوحيد الاتباع يكون باتباع النبي دون غيره من الخلق ، وهو معنى قولنا محمد رسول الله . والذي يجب أن يعتقده كل مكلَّف ، أن الله سبحانه وتعالى ما خلقنا إلا لتوحيده ، وما أرسل الرسل وأنزل القرآن إلا من أجل توحيده ، لذلك قال العلماء القرآن كله توحيد .
وهذا المعنى المستنبط من قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون قد لفت النظر إليه كثير من العلماء . ومنهم مجدد دعوة التوحيد بحق الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى فقد صدَّر كتابه القيم ” التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ” بهذه الآية وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
و أما المعنى الثاني وهو توحيد متابعة النبي فقد أشار إليه شارح الطحاوية رحمه الله بقوله ” فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما : توحيد المرسِل ، وتوحيد متابعة الرسول ، فلا نحاكم إلى غيره ولا نرضى بحكم غيره ولا نوقف تنفيذ أمره وتصديق خبره ، على عرضه على شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه ، فإن أذنوا له نفذه وقبل خبره ، وإلا فإن طلب السلامة فوضه إليهم وأعرض عن أمره وخبره ، وإلا حرفه عن مواضعه ، وسمى تحريفه تأويلاً وحملاً فقال نُؤوَّله ونحمله . فلأن يلقى العبد ربه بكل ذنب – ما خلا الإشراك بالله – خير له من أن يلقاه بهذه الحال . بل إذا بلغه الحديث الصحيح يُعد نفسه كأنه سمعه من رسول الله ، فهل يسوغ أن يؤخر قبوله والعمل به حتى يعرضه على رأي فلان وكلامه ومذهبه ، بل كان الفرض المبادرة إلى امتثاله من غير التفات إلى سواه ، ولا يستشكل قوله لمخالفته رأي فلان بل يستشكل الآراء لقوله ، ولا يعارض نصه بقياس بل نهدر الأقيسة ونتلقى نصوصه ، ولا نحرف كلامه عن حقيقته ، لخيال يسميه أصحابه معقولاً نعم هو مجهول وعن الصواب معزول ، ولا يوقف قبول قوله على موافقة فلان دون فلان كائناً من كان “
قال شيخ الإسلام (مجموع الفتاوى 4/195) ” الله عاب على المشركين شيئين:
أحدهما: أنهم أشركوا به ما لم ينـزل به سلطاناً.
الثاني: تحريمهم ما لم يحرمه الله ، كما بينه في حديث عياض عند مسلم ، وقال سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء فجمعوا بين الشرك والتحريم ، والشرك يدخل فيه كل عبادة لم يأذن الله بها ، فإن المشركين يزعمون أن عبادتهم إما واجبة ، و إما مستحبة ، ثم منهم من عبد غير الله ليتقرب به إلى الله ، ومنهم من ابتدع ديناً عبد به الله ، كما أحدثت النصارى من العبادات .
وأصل الضلال في أهل الأرض إنما نشأ من هذين ، إما اتخاذ دين لم يشرعه الله ، أو تحريم ما لم يحرمه .
ولهذا كان الأصل الذي بنى عليه أحمد وغيره مذاهبهم : أن الأعمال “عبادات و عادات” ، فالأصل في العبادات لا يشرع منها إلا ما شرعه الله ، والأصل في العادات لا يحظر منها إلا ما حظره الله . “
وكتبه
د. سعود السعدي
00966556300715